أصوات نيوز //
الدكتور شنفار عبدالله
ليس من الغرابة في شيء أن نشاهد حجم التضامن والتآزر والمساندة والتأييد في حادث المرحوم الطفل ريان اللهم افتح له أبواب الرحمة والمغفرة. المجتمع المغربي التقليدي تميز بأنماط تدبير جماعي تنم عن وجود فكر التدبير للشؤون المحلية بشكل مستقل عن تدخل الدولة؛ خاصة في بلاد ما سمي ب: (السيبة)؛ التي إذا تجاوزنا المعنى القدحي للكلمة؛ فإنه شكل من أشكال التدبير المحلي لشؤون الأهالي من خلال بنية مُسيطرة ومجتمع تراتبي؛ حيث نجد سيادة مفاهيم تمثل التضامن في شقية: تضامن الضرورة أو الندرة؛ وتضامن الكثرة والوفرة مثل كلمات: تَوَله أو التوالي في التسيير، وتَدُّوله أو التداول في التدبير؛ النَّوبة أو التناوب – اكادير- الشرط- طرق توزيع مياه السقي- التويزة- اكدال- اكوك – الامازان أو شيخ الماء- الأمغار أو شيخ القبيلة- المقدم- الجراي- البرَّاح- دار القبيلة- المسجد- الوزيعة… وغيرها من المصطلحات والمفاهيم والمؤسسات المحلية والآليات والأدوات، التي يتم من خلالها التواصل واجتماع “أجْماعة” من أجل تدبير شؤون القبيلة والدوار والحي والقصر أو المدشر، كتجمعات شكلت الإرهاصات الأولى لبروز الوحدات الإدارية. هذه المفاهيم تسود كثيرًا في الجنوب والجنوب الشرقي والبادية والقرى المغربية بصفة عامة؛ كمعطى أصلي شكل ولايزال يشكل محورًا ومرجعية أساسية لفهم المغرب العميق والحقيقي؛ وليس المغرب المزيف من خلال المدن الحديثة المدارة بأحزمة دور الصفيح وسيادة ثقافة واقتصاد الدراويش والباعة الجائلين بالشوارع والأزقة؛ والتي لها حمولة ورصيد تاريخي في إعمال المقاربات التشاركية والفكر التعاوني في تدبير الشؤون اليومية المحلية.- فالتويزة؛ تلجأ إليها “اجْمَاعه” خلال موسم الحرث والجني أو شق الطرق في إطار نوع من التعاون يساهم فيه الجميع من أجل تجميع القوة والجهد لبلوغ هدف مشترك. المجتمع التقليدي المغربي؛ أنتج رصيدًا كبيرًا من القوانين والأعراف والمؤسسات والمفاهيم عبر التاريخ؛ لازالت صالحة للاستعمال في عصرنا الحالي. • فهناك من يملك أشجار النخيل؛ والزيتون؛ ولكن لا يملك الأرض المغروس فوقها الأشجار..! • وهناك من يملك حصة من مياه الري؛ لكن لا يملك أرضًا للزراعة..! • وأحيانًا هناك من يملك أرضًا دون مياه السقي..! • حق ملكية ثابت ومضمون؛ ولصاحب الأرض نصيب وحق معلوم في الغلة؛ مقابل رعاية وسقاية الأشجار..! • كل ذلك يخضع فقط لأخلاقيات العرف والتقاليد والعادات وما سار عليه عمل (اجْمَاعه). هذه القوانين والأعراف؛ تراعي خصوصيات الناس و(اجْمَاعه) أفضل بكثير من القوانين الوضعية الحديثة..! ونضرب مثلًا لطرق توزيع مياه الري؛ الذي لم تستطع تدبيره مصالح المكاتب الجهوية للاستثمار الفلاحي؛ إلا بالرجوع لتلك الطرق التقليدية التي تعود لقرون مضت..!- اكادير: ويعني المكان أو مخزن المواد الأساسية للجماعة. كمستودع كبير لحفظ السلع والبضائع والمنتوج وحراسته والاعتناء به من التلف والسرقة والضياع.- اكدال: حارس بشكل دوري أو متفق عليه: يحرس الأشجار المثمرة، وغالبًا ما يكون استغلالها جماعيًا، أو حراسة حدود المنطقة الرعوية.- اكوك: هو عبارة عن حاجز للمياه، بحيرة صغيرة، أو سد تلي صغير لحصر المياه للاستفادة منها في السقي. أو صيد السمك. ويقام على الوديان والشعاب أو السهوب، ويستغل بشكل جماعي.- الشرط: هذه الكلمة لها ارتباط بالمسجد وإمام المسجد، أي أداء مستحقات إمام المسجد والتكفل بإطعامه بشكل دوري، كشرط إلزامي لا يمكن التحلل منه إلا بالنسبة للفقراء والأرامل، حسب شروط وأعراف الجماعة.- الوزيعة: هذه العملية تأخذ شكلين، في شكلها الأول التضامني، حينما تتعرض إحدي المواشي لكسر في إحدى أرجلها وتكون لازالت صالحة للاستهلاك، وتسمى: “الرزية” أو الابتلاء؛ ويتم ذبحها وتقسيمها على أفراد (اجماعة) ويؤدى ثمنها لفائدة المتضرر. وفي شكلها الثاني؛ ويحيل إلى الاتفاق واجتماع الارادة على ذبيحة وتوزيع لحومها فيما بينهم وهو شق اقتصادي بالأساس. البَرَّاحْ؛ إحدى المؤسسات التقليدية؛ في الثقافة المغربية؛ يبدأ كلامه بمفتاح الإسلام: لا اله الا الله محمد رسول الله.. لن تسمعوا الا أخبار الربح والخير.. فهو يبشر المتلقي بالخير وليس بالشر؛ كما يفعل البعض عبر الرسائل النصية ومقاطع الفيديو التي تزرع الرعب والرهبة في النفوس. ومن ثقافة الجنوب؛ وجود مؤسسة البَرَّاحْ الذي ينادي في الناس: الواد الواد الواد قادم (جاي) أو اسِيفْ اسِيفْ يُشْكَادْ بمثابة سفارات إنذار.- “توله” و”تادولة” أو “الدولة” والتداول والتناوب؛ مفاهيم لها امتداد تاريخي وأبعاد وسياقات حضور مكثف في المخيال الاجتماعي للقبائل، خاصة بالجنوب الشرقي من المغرب، وهذه المفاهيم تحيل إلى التوالي أو التناوب في إدارة وتدبير شؤون القبيلة أو التجمعات السكانية، خاصة: في مجال الرعي، وفي الإشراف على توزيع مياه السقي، وفي إطعام فقهاء وأئمة المساجد،… إلى غير ذلك، بشكل؛ دوري من خلال تناوب أفراد هذه العائلة أو الفخذة أو تلك في التدبير والإشراف على مصالحهم. و”تادولة أو توله” واجب لا يمكن التحلل منه، وعليك أن تقوم به على أحسن وجه، تحت مساءلة ومراقبة أعيان القبيلة وباقي أفرادها، الذين ينزلون العقاب في حق المخالف الذي لم يدبر ما أنيط به على أحسن وجه، أو بدره، كأن يترك القطيع يأكلها الذئب أو يترك المخزن: “دار القبيلة” يتعرض للضياع والتلف… إلى غير ذلك، وقد يذهب أبعد من ذلك إلى تحميله المسؤولية التاريخية، كمقاطعة أفراد الفخذة، أو إقصائها من تولي مهام أخرى في القبيلة، كشغل منصب مقدم أو جراي أو شيخ أو أن يكون أحد كبار القبيلة المنتخب أو ممثلها في علاقتها بالقبائل الأخرى.هذا، وبالاضافة الى ذلك؛ قد نجد هنالك مفاهيم أخرى تدل على تحضر وثقافة المجتمعات في التضامن والتنظيم والقيم والعدالة في تدبير شؤونهم اليومية. محاولة تْرْيابْ كل ما هو قديم في تمغربيت!! مؤسسة “سمسار” نموذجًا. لست أدري لماذا نصر على هدم وهدم كل ما هو قديم لدينا في مجتمعنا..! مؤسسة “سمسار” هي حَنْطة قديمة أنتجها المغرب في مجال؛ التجارة والبيع والشراء والرهن والكراء… لكن أصبحت تحمل اسم: وسيط عقاري! وكأن النشاط ينصب فقط على مجال العقار! في حين إن مؤسسة سمسار تشمل العديد من الأنشطة والمجالات. السمسرة هي (ماركوتينگ) عبارة عن مهنة يقوم بها شخص يسمى (السمسار) يتميز بمعرفة وإلمام بقانون السوق والگُلْساتْ (الأصول التجارية) والعرض والطلب، وقوانين الاستئجار، وفن الحنْطة والحرفة، والقدرة على الحوار اللفظي وعلى الاقناع والمفاوضات التجارية (Négociations) وأخلاقيات النشاط التجاري. وله دراية كذلك بطرق المساومة، وكذا عيوب ومحاسن وجودة السلع والبضائع والخدمات المعروضة في السوق.. فهو يتولى الإشراف على نشاط مبادلات؛ يقوم على عنصر السرعة وربح الوقت وعامل الثقة في المعاملات التجارية والأعمال. يتولى السمسار دور الوسيط بين البائع والمشتري، بغرض تقريب وجهات النظر فيما بينهما وإتمام الصفقات التجارية المختلفة بشكل سريع وبسيط وسهل، بعيدًا عن مختلف التعقيدات؛ وهو المبدأ الذي تقوم عليه ظروف التجارة ومناخ الأعمال؛ مقابل الحصول على مبلغ من المال كواجب مقابل الأتعاب، عند انتهاء الصفقة من قبل الطرفين. مع الأسف أصبح ينظر إلى كلمة “سمسار” نظرة قدحية؛ في محاولة يائسة وعبث لترياب وهدم كل ما هو من تَمْغَرْبِيتْ أصيل..!! وبالتالي فثقافة التدبير المحلي وهندسة المجال؛ هي ثقافة ونمط حياة، له حضور في الذاكرة والمخيال الاجتماعي للإنسان المغربي؛ حيث يسهل إعادة بنائه وفق التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية؛ حيث يكفي البحث عنها والنبش فيها لتوظيفها في حل الكثير من القضايا والمشاكل المطروحة في عصرنا.