عادة ما يلاحظ في عدة مدن مغربية بعض الجنود بلباسهم العسكري وهم ينقلون بالسيارات العسكرية أطفال كبار الضباط العسكريين من بيوتهم إلى مدارسهم، أو يتجولون بزوجات وعائلات هؤلاء لقضاء أغراضهم الشخصية من تسوق وزيارات خاصة…كما أن هناك جنودا آخرين يكلفون بالاعتناء بحدائق فيلات وإقامات رؤسائهم، من كولونيلات وجنرالات بمختلف رتبهم العسكرية، أو تسند لهم مهمة التناوب على مداومة الحراسة لبيوت ومنازل هؤلاء الرؤساء، أو يتم تكليف بعضهم للإشراف على أعمال منزلية وشخصية مختلفة ومتنوعة أخرى، ما يطرح التساؤل عن تفشي مثل هذه الظاهرة والعوامل الثاوية وراءها.
– الثقافة العسكرية المخزنية
من المعروف أن النظام السياسي المخزني قام في المغرب، ومنذ تأسيسه، على قيم سياسية محورية، من بينها الطاعة والخدمة. وشملت هذه القيم كل مكونات هذا النظام ومؤسساته، بما فيها المؤسسة العسكرية. وجيش البخاري الذي ارتبط تكوينه بالسلطان المولى إسماعيل عكس بشكل كبير هذه القيم، وبالأخص قيم الخدمة. فقد تم تكوين عناصر هذا الجيش وتمت تربيته وتدريبه وتجهيزه لخدمة السلطان وتحقيق مشاريعه السياسية.
وقد استمر هذا الوضع بعد إعادة تكوين المؤسسة العسكرية بعد الاستقلال، فرغم العصرنة التي شملت المكونات المادية والحربية لهذه المؤسسة من لباس، وتدريب، وقوانين، وتجهيزات، بقيت العلاقات التي تربط بين مكوناته البشرية تقوم بالأساس على رابطتين أساسيتين، تتمثلان في الطاعة العمياء للرئيس والتفاني في خدمته.
وكل التداريب والدروس والسلوكات التي تلقن داخل الثكنات تكرس هذه المظاهر، وتجعل من حق الرئيس كلما علت رتبته العسكرية أن يطلب أي شيء من مرؤوسيه الذين ما عليهم إلا التنفيذ. ولعل هذا ما يسمح بأن يقوم بعض كبار الضباط باستخدام بعض الجنود في إقاماتهم كطباخين وبستانيين وحراس، أو تشغيلهم كسائقين خاصين لأبنائهم وزوجاتهم وعائلتهم .
– نظام الامتيازات العسكرية
يتميز النظام المخزني في المغرب بسخائه السياسي الكبير على مختلف مكونات طبقته السياسية، بما فيها النخب العسكرية. فالامتيازات التي تغدق على النخب السياسية المدنية من وزراء، ونواب، وولاة، وعمال، ومدراء المؤسسات العمومية وشبه العمومية، ورؤساء المجالس الملكية الاستشارية …عادة ما تغدق مثلها أو أضعافها على النخب العسكرية: كالمرتبات العليا، والسيارات الفخمة، والإقامات المرفهة، ورخص استغلال مقالع الرمال والصيد في أعالي البحار، والتطبيب في مستشفيات عسكرية مجهزة بأحدث التجهيزات والمعدات الطبية، مع السماح لهم بالاشتغال في الأعمال الخاصة .
وبالإضافة إلى هذه الامتيازات، عادة ما يسمح لبعض كبار الضباط، وعلى غرار بعض نظرائهم في الوزارات والإدارات العمومية، بتشغيل عدد من الجنود في أغراضهم ومصالحهم الشخصية، إذ ينتقل هؤلاء الجنود من الاشتغال من الثكنات إلى الاشتغال في البيوت مستبدلين الخدمة العسكرية بالخدمة المنزلية.
وطبقا للتسلسل العسكري داخل القوات المسلحة الملكية، يتمتع ذوو الرتب العسكرية من درجة جنرال بمختلف رتبها (جنرال دو دارمي، ونيل جنرال دو ديفزيون، وجنرال دو بريكاد)، وفئات الضباط من الدرجة الثانية بمختلف رتبها (كولونيل-ماجور، كولونيل، ليوتنان كولونيل..) ببعض الامتيازات، والتي من أهمها خادم البيت الذي يكون بدوره جنديا برتبة ضابط صف أو أقل، يتم تعيينه بصفة الإلحاق، ليعمل مساعدا في أعمال البيت بالنسبة للمسؤول العسكري أو سائقا في خدمته وخدمة أفراد أسرته. ويختلف هذا الامتياز تبعا للمدن والمناطق التي يعين فيها هؤلاء المسؤولون العسكريون السامون .
– إكراهات التراتبية العسكرية
إن ما يساعد على تفشي هذه الظاهرة هي الفوارق الكبيرة بين كبار الضباط المتواجدين في أعلى الهرمية العسكرية بكل ما يترتب عن ذلك من امتيازات ونفوذ وسلطة، والجنود المتواجدين في أسفل الترتيب العسكري الذين يكون أغلبهم منحدرا من فئات اجتماعية شعبية وجهات قروية مهمشة، بالإضافة إلى المستوى التعليمي المتدني، ما يساعد على سهولة استغلالهم من طرف نخب عسكرية منحدرة من فئات اجتماعية راقية أو شرائح متوسطة تتمتع بمستويات تعليمية عليا ومنحدرات حضرية متأصلة. بالإضافة أن وجودهم تحت رحمة هرمية الرتبة والمنصب، وانعزالهم في ثكنات عسكرية تسند فيها مهمة تسييرها وإدارتها لأعلى الضباط رتبة، يجعل الجنود في أدنى الرتب تحت سلطة هؤلاء الذين يمكن أن يتحكموا فيهم وفق أهوائهم الشخصية. وأقل رفض أو تمرد أو عصيان لأوامرهم يعرض الجنود لعقوبات تأديبية أو زجرية أو نقل إلى مناطق عسكرية أشد قسوة وصعوبة.
ولعل هذا يجبر الكثير من هؤلاء الجنود على تنفيذ أوامر ورغبات رؤسائهم، بما في ذلك الاشتغال في بيوتهم وقضاء حاجياتهم الشخصية والعائلية للحصول على رضاهم والحصول على حمايتهم.
كما أن هناك من الجنود من يفضل الاشتغال في بيوت رؤسائهم ومنازلهم بدل القيام بالأعمال الشاقة في الثكنات العسكرية أو الخدمة في ظروف مناخية صعبة وقاسية، سواء في الجبهات العسكرية أو في حراسة الحدود، مع ما يصاحب ذلك من مخاطر وأعباء ومسؤوليات ووحدة وملل.
بالإضافة إلى مختلف هذه العوامل، يمكن الإشارة إلى أن تكدس الجنود في بعض المدن، بما فيها العاصمة، وسوء توزيعهم على الجهات والمناطق العسكرية، وعدم تحديد دقيق للمهام المنوطة بهم، يسهل عملية تشغيل بعضهم في مهام منزلية وحتى شخصية، ما يستدعي بالتالي إعادة النظر في هذه الوضعية التي سبق أن تم التشكي منها من خلال رسالة بعثت إلى الملك كقائد أعلى للقوات المسلحة الملكية في بداية توليه الحكم.
وبالتالي، يتطلب تحديث الجيش القضاء على هذه الظاهرة المخزنية التي تسخر شرائح عديدة من الجنود لقضاء أغراض شخصية وعائلية لحفنة من الضباط السامين، في وقت يتم أداء أجورهم من ضرائب تقتطع من دخول المواطنين. ولاقتلاع هذه الظاهرة، ينبغي العمل على إعادة توزيع دقيق للقوات العسكرية على مختلف الجهات والمناطق العسكرية وفق الحاجيات الحقيقية لكل جهة عسكرية، وتوظيفها في أعمال عسكرية محددة تدخل ضمن اختصاصاتها، وعدم السماح بتشغيل الجنود خارج الثكنات العسكرية، وتحريم تسخيرهم في أعباء منزلية أو في أغراض شخصية خاصة بمسؤولين أو رؤساء كيفما كانت رتبهم العسكرية؛ بالإضافة إلى ضرورة تحويل فوائض القوات المسلحة من هؤلاء الجنود إلى قطاعات أمنية، تكون في أمس الحاجة إلى خدماتها، إذ يمكن كما تم مؤخرا إدماج بعض القطاعات العسكرية في أسلاك الشرطة بعد إعادة تكوينها وتأهيلها بشكل يمكنها من القيام بمهامها الأمنية الجديدة .